فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

قال نظام الدين النيسابوري:
التأويل: {ستغلبون} إشارة إلى أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلي بالشقاوة {ربنا غلبت علينا شقوتنا} [المؤمنون: 106] ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا. فبغلبات النفس والهوى يرد إلى أسفل سافلي الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه في قعر جهنم وبئس المهاد، مهاد مهده في معاشه.
{قد كان لكم آية في فئتين التقتا} إن لله تعالى فئتين في الظاهر من المؤمن والكافر، وفئتين في الباطن من القلب وصفاته والنفس وصفاتها الذميمة، ولهما الحرب والالتقاء على الدوام وهو الجهاد الأكبر {والله يؤيد بنصره من يشاء} من القلب وجنوده وهم الروح والسر والأوصاف الحميدة والملائكة، ومن النفس وأعوانها وهم الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة والشياطين ثم أخبر عن جنود الفئتين وأعوان الفرقتين بقوله: {زين للناس}. واعلم أن الله خلق الخلق على طبقات ثلاث: العوام ويعبر عنهم بلفظ الناس والغالب عليهم الهوى وهم أصحاب النفوس، والخواص ويعبر عنهم بلفظ المؤمن وهم أرباب الأرواح والغالب عليهم التقوى، وخواص الخواص ويذكرهم بلفظ الولي {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [يونس: 62] والغالب فهيم المحبة والشوق. ثم إن لجهنم سبع دركات محفوفة بالشهوات. فأشار بالنساء إلى شهوة الفرج، وبالبنين إلى شهوة الطبيعة الحيوانية المائلة إلى الولد، وبالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى شهوة الحرص على المال، وبالخيل المسوّمة إلى شهوة الجاه والخيلاء بالركوب عليها، وبالأنعام إلى شهوة الجمال والاقتناء {ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون} [النحل: 6] وبالحرث إلى شهوة الحكم والرياسة على الرعايا وأهل القرى. ثم ذكر درجات الجنات الثمانية للخواص منها التقوى للذين اتقوا والرضا بالقضاء {ورضوان من الله} والإيمان {ربنا إننا آمنا} والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار بالأسحار هذه جنات عاجلة تجري من تحتها الأنهار الألطاف والواردات. والأزواج المطهرة الأخلاق الفاضلة التي تتولد منها، فإذا عاش في الجنات مات وحشر كذلك. ثم أشار إلى أحوال خواص الخواص مستورة من نظر الخواص محفوظة عن فهم العوام بقوله: {والله عنده حسن المآب} ما احلولى لهم الدنيا يا دنيا مري على أوليائي ولا وقفوا عند جنة المأوى {ما زاغ البصر وما طغى} [النجم: 17] وإنما طلبوا قرب المولى {للذين أحسنوا الحسنى} [يونس: 26] {شهد الله} بكلامه الأزلي عن عمله السرمدي على ذاته الأحدي وكونه الصمدي {أنه لا إله إلا هو} وهي شهادة الحق للحق بالحق أنه الحق، وهو متفرد بهذه الشهادة الأزلية الأبدية لا يشاركه فيها أحد، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات، فشهادته لا تشبه الشهادات. شهد بجلال قدره على كمال عزه حين لا حين ولا أين ولا عقل ولا جهل ولا غير ولا شرك ولا عرش ولا فرش ولا الجنة ولا النار ولا الليل ولا النهار ولا الجن ولا الإنس ولا الملائكة ولا أولو العلم ولا الإنكار ولا الإقرار، فأخبر الذي كان عما كان كما كان وهو أنه لا إله إلا هو، ثم أبدع الموجودات كما شاء على ما شاء لما شاء.
فكل جزء من أجزائها، وكل ذرة من ذراتها، بوجوده مفصح، ولربوبيته موضح، وعلى قدمه شاهد، ولكن ينبوع ماء التوحيد هو القدم فجرى في مجاري أنهار المحدثات إلى أن ظهر من عيون الملائكة وأولي العلم. ثم الملائكة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد كما كان أولو العلم، ولكن اختص أولو العلم منهم بمشربية {وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها} [الفتح: 26].
لي سكرتان وللندمان واحدة ** شيء خصصت به من بينهم وحدي

فحقيقة معنى الآية: شهد الله أنه لا إله إلا هو وهو قائم بالقسط على أمور عباده حتى يشهد على شهادته الملائكة وأولو العلم. ثم فائدة التكرار بقوله: {لا إله إلا هو} عائدة إلى أولي العلم الذين لهم شركة مع الملائكة في مظهرية ماء التوحيد بالشهادة، ولهم اختصاص بالمشربية لماء التوحيد فشاهدوا حقيقة {لا إله إلا هو العزيز} الذي لا يشاهد عزته إلا أعزته من بين البرية {الحكيم} الذي بحكمته اختارهم لهذه العزة من جملة الخليقة.
{وما اختلف الذين أوتوا الكتاب} الاختلاف في الصورة من نتائج تناكر الأرواح في عالم المعنى والأرواح فما تعارف منها في الميثاق لتقاربهم في الصف أو لتقابلهم في المنزل ائتلف، وما تناكر منها لتباعدهم في الصف أو لتدابرهم في المنزل اختلف.
{إلا من بعد ما جاءهم العلم} فيه أن العلم مظنة الحسد، ولكن المحمود منه ما يخص باسم الغبطة.
{ويقتلون النبيين} الإنسان خلق مستعدًا لقبول فيض صفات لطف الحق وقهره، فكما أن كمال الإنسان في قبول فيض اللطف أن يفدي نفسه في متابعة الأنبياء حتى يكون خير البرية، فنقصانه في قبول فيض القهر أن يقتل الأنبياء حتى يكون شر البرية، فلهذا تحبط أعماله ولا ترجى توبته وترجى توبة إبليس {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب} فيه إشارة إلى أن من أوتي حظًا من العلم فعليه إذا دعي إلى حكم من أحكام الله أو إلى ترك الدنيا ومخالفة الهوى أن يمتثل وينقاد وإلا كان مغرورًا بالدنيا مفتريًا في الدعوى، وهذه حال أكثر من أوتي نصيبًا من علم الظاهر ولم يؤت حظًا من علم الباطن، فهم أهل العزة بالله فكيف حال المغرورين إذا جمعهم الله؟. اهـ.

.تفسير الآية رقم (26):

قوله تعالى: {قُلِ اللهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ أنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أخبر تعالى أن الكفار سيغلبون وأنه ليس لهم من ناصرين كان حالهم مقتضيًا لأن يقولوا: كيف ونحن أكثر من الحصى وأشد شكائم من ليوث الشرى، فكيف نغلب؟ أم كيف لا ينصر بعضنا بعضًا وفينا الملوك والأمراء والأكابر والرؤساء ومناوءونا القليل الضعفاء، أهل الأرض الغبراء، وأولو البأساء والضراء، فقال تعالى لينتبه الراقدون من فرش الغفلات المتقلبون في فلوات البلادات من تلهيهم بما رأوا وسمعوا من نزع الملك من أقوى الناس وإعطائه لأضعفهم فيعلموا أن الذي من شأنه أن يفعل ذلك مع بعض أعدائه جدير بأن يفعل أضعافه لأوليائه: {قل اللهم} قال الحرالي: ولما كان هذا الأمر نبوة ثم خلافة ثم ملكًا فانتظم بما تقدم من أول السورة أمر النبوة في التنزيل والإنزال، وأمر الخلافة في ذكر الراسخين في العلم الذين يقولون: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [آل عمران: 8]، وكانت من هجيري أبي بكر رضي الله تعالى عنه، يقنت بها في وتر صلاة النهار في آخر ركعة من المغرب- انتظم برؤوس تلك المعاني ذكر الملك الذي آتى الله هذه الأمة، وخص به من لاق به الملك، كما خص بالخلافة من صلحت له الخلافة، كما تعين للنبوة الخاتمة من لا يحملها سواه- انتهى؛ فقال: {قل} أي يا محمد أو يا من آمن بنا مخاطبًا لإلهك مسمعًا لهم ومعرضًا عنهم ومنبهًا لهم من سكرات غفلاتهم في إقبالهم على ملوك لا شيء في أيديهم، وإعراضهم عن هذا الملك الأعظم الذي بيده كل شيء.
قال الحرالي: لعلو منزل هذه السورة كثر الإقبال فيها بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وجعل القائل لما كانت المجاورة معه، لأن منزل القرآن ما كان منه لإصلاح ما بين الخلق وربهم يجيء الخطاب فيه من الله سبحانه وتعالى إليهم مواجهة حتى ينتهي إلى الإعراض عند إباء من يأبى منهم، وما كأن لاصلاح ما بين الأمة ونبيها يجري الله الخطاب فيه على لسانه من حيث توجههم بالمجاورة إليه، فإذا قالوا قولًا يقصدونه به قال الله عز وجل: قل لهم، ولكون القرآن متلوًا ثبتت فيه كلمة قل- انتهى.
{اللهم مالك الملك} أي لا يملك شيئًا منه غيرك.
قال الحرالي: فأقنعه صلى الله عليه وسلم ملك ربه، فمن كان منه ومن آله وخلفائه وصحابته يكون من إسلامه وجهه لربه إسلام الملك كله الذي منه شرف الدنيا لله، فلذلك لم يكن صلى الله عليه وسلم يتظاهر بالملك ولا يأخذه مآخذه، لأنه كان نبيًا عبدًا، لا نبيًا ملكًا، فأسلم الملك لله، كذلك خلفاؤه أسلموا الملك لله فلبسوا الخلقان والمرقعات واقتصروا على شظف العيش، ولانوا في الحق، وحملوا جفاء الغريب، واتبعوا اثره في العبودية، فأسلموا الملك لله سبحانه وتعالى، ولم ينازعوه شيئًا منه، حمل عمر رضي الله تعالى عنه قربة على ظهره في زمن خلافته حتى سكبها في دار امرآة من الأنصار في أقصى المدينة، فلما جاء الله بزمن الملك واستوفيت أيام الخلافة عقب وفاء زمان النبوة أظهر الله سبحانه وتعالى الملك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وكما خصص بالنبوة والإمامة بيت محمد وآل محمد صلى الله عليه وسلم وخصص بالخلافة فقراء المهاجرين خصص بالملك الطلقاء الذين كانوا عتقاء الله ورسوله، لينال كل من رحمة الله وفضله، التي ولى جميعها نبيه صلى الله عليه وسلم كلَّ طائفة على قدر قربهم منه، حتى اختص بالتقدم قريشًا ما كانت، ثم العرب ما كانت إلى ما صار له الأمر بعد الملك من سلطنة وتجبر إلى ما يصير إليه من دجل كل ذلك مخول لمن يخوله بحسب القرب والبعد منه {تؤتي الملك من تشاء} في الإيتاء إشعار بأنه تنوبل من الله من غير قوة وغلبة ولا مطاولة فيه وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بمنال الملك من لم يكن من أهله وأخص الناس بالبعد منه العرب، ففيه إشعار بأن الله ينول ملك فارس والروم العرب كما وقع منه ما وقع، وينتهي منه ما بقي إلى من نال الملك بسببها وعن الاستناد إليها من سائر الأمم الذين دخلوا في هذه الأمة من قبائل الأعاجم وصنوف أهل الأقطار حتى ينتهي الأمر إلى أن يسلب الله الملك جميع أهل الأرض، فيعيده إلى إمام العرب الخاتم للهداية من ذريته ختمه صلى الله عليه وسلم للنبوة من ذرية آدم، ويؤتيهم من المكنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لو شاء أحدهم أن يسير من المشرق إلى المغرب في خطوة لفعل» ومع ذلك فليسوا من الدنيا وليست الدنيا منهم، فيؤتيهم الله ملكًا من ملكه- ظاهر هداية من هداه، شأفة عن سره الذي يستعلن به في خاتمة يوم الدنيا ليتصل بظهوره ملك يوم الدين، والملك التلبس بشرف الدنيا والاستئثار بخيرها؛ قال أبو بكر لعمر رضي الله تعالى عنهما في وصيته: إذا جنيت فلتهجر يدك فاك حتى يشبع من جنيت له، فإن نازعتك نفسك في مشاركتهم فشاركهم غير مستأثر عليهم، وإياك والذخيرة! فإن الذخيرة تهلك دين الإمام وتسفك دمه، فالملك التباس بشرف الدنيا واستئثار بخيرها واتخاذ ذخيرة منها.
لما أرادوا أن يغيروا على عمر رضي الله تعالى عنه زيه عند إقباله على بيت المقدس نبذ زيهم وقال: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام! فلن نلتمس العزة بغيره.
فمن التمس الشرف بجاه الدنيا فهو ملك بقدر ما يلتمس من شرفها قل ذلك الحظ أو جل، وهو به من أتباع ملوك الدنيا، وكذلك من التمس الاستئثار بخيرها واتخذ الذخيرة منها، كل ينال من الملك ويكون من شيعة الملوك بحسب ما ينال ويحب من ذلك حتى ينتهي إلى حشره مع الصنف الذي يميل إليه، فمن تذلل وتقلل وتوكل بعث مع الأنبياء والمرسلين والخلفاء، كما أن من تشرف بالدنيا واستأثر وادخر منها حشر مع الملوك والسلاطين؛ جلس عمر رضي الله تعالى عنه يومًا وسلمان وكعب وجماعة رضي الله تعالى عنهم فقال: أخبروني أخليفة أنا أم ملك؟ فقال له سلمان رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إن جبيت درهمًا من هذا المال فوضعته في غيره حقه فأنت ملك، وإن لم تضعه إلا في حقه فأنت خليفة، فقال كعب: رحم الله تعالى! ما ظننت أن أحدًا يعرف الفرق بين الخليفة والملك غيري، فالتزام مرارة العدل وإيثار الغير خلافة وتشيع في سبيلها، ومنال حلاوة الاستئثار بالعاجلة شرفها ومالها ملك وتحيز لتباعه- انتهى.
وفي تقديم الإيتاء على النزع إشارة إلى أن الداعي ينبغي أن يبدأ بالترغيب {وتنزع} قال الحرالي: من النزع، وهو الأخذ بشدة وبطش- انتهى.
{الملك ممن تشاء} وفيه إشارة إلى إن الدعاء باللين إن لم يجدِ ثني بالترهيب، وعلى هذا المنوال أبرز قوله: {وتعز من تشاء} أي إعزازه {وتذل من تشاء} أي إذلاله، وهو كما قال: «إن رحمتي سبقت غضبي» قال الحرالي: وفي كلمة النزع بما ينبئ عنه من البطش والقوة ما يناسب معنى الإيتاء، فهو إيتاء للعرب ونزع من العجم، كما ورد أن كسرى رأى في منامه أنه يقال له: سلم ما بيدك لصاحب الهراوة، فنزع مُلكَ المولك من الأكاسرة والقياصرة وخوّله قريشًا ومن قام بأمرها وانتحل الملك باسمها من صنوف الأمم غربًا وشرقًا وجنوبًا وشمالًا، إلى ما يتم به الأمر في الختم، والعز- والله سبحانه وتعالى أعلم- عزة الله سبحانه وتعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] ليكون في الخطاب إنباء بشرى لهم أنه أتاهم من العز بالدين ما هو خير من الشرف بملك الدنيا {من كان يريد العزة فللّه العزة جميعًا} [فاطر: 10] فالملوك وإن تشرفوا بملك الدنيا فليس لهم من عزة الدين شيء، أعزهم الله سبحانه وتعالى بالدين، تخدمهم الأحرار وتتوطد لهم الأمصار، لا يجدون وحشة، ولا يحصرون في محل، ولا تسقط لهم حرمة حيث ما حلوا وحيث ما كانوا استتروا أو اشتهروا، والمتلبسون بالملك لا يخدمهم إلا من استرقوه قهرًا، يملكون تصنع الخلق ولا يملكون محاب قلوبهم، محصورون في أقطار ممالكهم، لا يخرجون عنها ولا ينتقلون منها حتى يمنعهم من كمال الدين، فلا ينصرفون في الأرض ولا يضربون فيها، حتى يمتنع ملوك من الحج مخافة نيل الذل في غير موطن الملك، والله عز وجل يقول: «إن عبدًا أصححت له جسمه، وأوسعت عليه في رزقه، يقيم خمسة أعوام لا يفد على المحروم» فالملوك مملوكون بما ملكوا، وأعزاء الله ممكنون فيما إليه وجهوا، لا يصدهم عن تكملة أمر الدين وإصلاح أمر الآخرة صادّ، ولا يردهم عنه راد لخروجهم من سجن الملك إلى سعة العز بعزة الله سبحان وتعالى، فقارض الله أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، ولم يرضه للملك بعز الإمامة ورفعة الولاية والاستيلاء على محاب القلوب فاسترعاهم الله قلوب العالمين بما استرعى الملوك بعض حواس المستخدمين والمستتبعين، والذل مقابل ذلك العزة، فإذا كان ذلك العز عزًا دينيًا ربانيًا عوضًا عن سلب الملك كان هذا الذل- والله تعالى أعلم- ذل أهل الدنيا في دنياهم الذي ألزمهم سبحانه وتعالى إياه بما أذلتهم أنفسهم، فاستعملتهم في شواتها وأذلهم أتباعهم فتوسلوا بهم إلى قضاء أغراضهم في أهوائهم، ويستذلهم من يظلمونه بما ينتصفون منهم، وينالهم من ذل تضييع الدين، ويبدو على وجوههم من ظلمة الظلم ما يشهد ذلهم فيه أبصار العارفين- انتهى.
ولعل نصارى نجران أشد قصدًا بهذا الخطاب، فإنهم خافوا أن ينزع منه ملوك الروم ما خولوهم فيه من الدنيا إن أخبروا بما يعلمون من أمر هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم.
ولما تقرر أنه مالك لما تقدم أنتج أن له التصرف المطلق فعبر عنه بقوله: {بيدك} أي وحدك {الخير} ولم يذكر الشر تعليمًا لعباده الأدب في خطابه، وترغيبًا لهم في الإقبال عليه والإعراض عما سواه، لأن العادة جارية بأن الناس أسرع شيء إلى معطي النوال وباذل الأموال، وتنبيهًا على أن الشر أهل للإعراض عن كل شيء من أمره حتى عن مجرد ذكره وإخطاره بالبال، مع أن الاقتصار على الخير يملك الخير كله مستلزم لمثل ذلك في الشر، لأنهما ضدان، كل منهما مساوٍ لنقيض الآخر، فإثبات أحدهما نفي للآخر ونفيه إثبات للآخر، فلا يعطى الخير إلا وقد نفي الشر، ولا ينزع الخير إلا وقد وضع الشر- والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولما أفهم أن الشر بيده كما أعلم أن الخير بيده وخاص به قرر ذلك على وجه أعم بقوله معللًا: {إنك على كل شيء قدير}. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوّة، وصحة دين الإسلام، ثم قال لرسوله {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} [آل عمران: 20] ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} [آل عمران: 23] ثم ذكر شدة غرورهم بقوله: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} [آل عمران: 24] ثم ذكر وعيدهم بقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25] أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين، فقال معلمًا نبيّه كيف يمجّد ويعظم ويدعو ويطلب {قُلِ اللهم مالك الملك}. اهـ.